الحربُ وإشكالية إرث البردوني: مقاربة نقدية في رواية "إرث النكبة" الحربُ وإشكالية إرث البردوني: مقاربة نقدية في رواية "إرث النكبة"

عبده منصور المحمودي: شاعر وناقد يمني، وأكاديمي في جامعة عدن.

 

ينتمي الاشتغال السردي، في رواية الكاتب محمد عبده البردوني "إرث النكبة"([1])، إلى ذاك النوع من السردية الروائية، التي يُطلِقُ عليها النقدُ الأدبي الحديث مصطلحَ "الرواية السيرية"، أو "الرواية السيرذاتية". أي تلك "النصوص التخيلية التي يجد قارؤها أسبابًا تدفعه- انطلاقًا من عناصر تشابُهٍ يعتقد اكتشافها- إلى الارتياب في وجود تطابقٍ بين الشخصية والمؤلف، في حين فضّل المؤلف نفي هذا التطابق أو امتنع على الأقل من تأكيده"([2]).

وتأسيسًا على هذه الرؤية النقدية والاصطلاحية، فإن أنساق هذا العمل قد تشكّلت من تشابُكِ العلاقةِ بين شخصيته الرئيسة وبين سياقاته السردية، من خلال مسارين اثنين، الأول: الحرب وتداعياتها الكارثية. والثاني: الإشكالية الكامنة في إرث الشاعر (عبد الله البردوني). واستكناهُ نسيجِ هذه العلاقة الشائكة، وآلية تسريدها في أنساق الحكاية، هو الغاية التي تسعى إليها المحاورُ التحليلية في هذه الورقة النقدية.

البُنى السردية

بما أن المعمار السردي في هذا العمل قد قام على البُنيَتين الرئيستين: (الحرب/ وإشكالية الإرث). فإن الثانية منهما هي التي أحال عليها العنوان إحالةً مباشرة؛ بوصفها نكبةً تجرّعت مرارتها أسرة الراحل، وبها تشكّلت عددٌ من المواقف والتفاصيل في حياة الشخصية الرئيسة (محمد)، امتدادًا إلى شخصية (عبد الله البردوني)، ذات المحورية والفاعلية غير المباشرة في أنساق الحكاية، بماهيتها القائمة على صيغة الأثر البَعْدِي المُتَخَلِّق من تداعيات وفاة صاحبها. باستثناءِ موقفٍ واحدٍ، ذي أثرٍ قبْلي، عائدٍ إلى حياة الشاعر، كان فيه (محمد) وشقيقة بمعية أبيهما في زيارةٍ قام بها لجدهما (البردوني) المقيم في مدينة (صنعاء)([3]). وإلى ذلك، فقد استأنس العملُ بعددٍ من الشخصيات، التي تربطها بهاتين الشخصيتين (الرئيسة/ والمحورية) أواصرُ سرديةٍ وعائلية، منها شخصيات: (الحاج عبده/ عبد الكريم/ أحمد/ قدرية/ ظبية).

توزّعت سردية العمل، على أقسامٍ اتّخذتْ من الأرقام عناوينَ لها، وصلت بها إلى عشرين قسمًا. وانتمى الحيز الروائي المكاني إلى محافظاتٍ ثلاث: (تعز/ عدن/ صنعاء). كما امتد الحيز الزمني من وفاة الشاعر عبد الله البردوني في صيف 1999م([4])، إلى الأول من يناير 2022م، الذي يستهل فيه (محمد) السنة الخامسة والثلاثين من عمره([5])، وقد وردت كثيرٌ من أحداث هذا الحيز الزمني وتحولاته المفصلية مُذيّلةً بالتاريخ الذي حدثت فيه([6]). كما وردت استرجاعاتٌ مقتضبة، لأحداث تسبق هذا الحيز، كالإشارة إلى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962م، والإشارة إلى تداعيات حرب الخليج 1990، على المغتربين اليمنيين. 

حربٌ قبليّة وسياسية

ارتبطت بُنية الحرب بمهنةِ قصِّ أحجار البِناء بآلة (المِنشار)؛ تجانُسًا مع مهنة الشخصية الرئيسة (محمد)؛ فقد كان الخلاف بين شخصين- اشتركا في إنشاء مشروع (منشار أحجار)- سببًا في نشوب الحرب الأهلية بين قبيلتيهما([7])، ومن ثم امتداد هذه الحرب إلى مدرسة القرية؛ إذ انقسمَ مَنْ فيها على طرفي الصراع، فلم يكن من الممكن استمرار العملية التعليمية فيها، لذلك اتفق الأهالي على إغلاقها. ثم قامت كل قبيلةٍ بإنشاء مدرسة خاصة بطلابها([8]).

وتجلى ارتباط بُنية الحروب السياسية بهذه المهنة، فيما ألْحَقَتْهُ بها من أضرارٍ كارثية؛ إذ يتحدث (محمد)- الذي كان يعمل في محل أبيه في مدينة (عدن)- عن الحرب الأهلية بين شمال الوطن وجنوبه عام 1994م، وآثارها التدميرية التي ما زالت حيّة في ذاكرته منذ أن "التصقت في ذهنه صورة الخزان العملاق الذي اخترقته قذيفة دبابة"([9]). كما تجلى ارتباط الحرب بهذه المهنة، في الإشارة إلى حال المدينة ذاتها إثْرَ التفجير الإرهابي الذي استهدف- في سواحلها- المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول) في أكتوبر 2000م، فتوقفت كثيرٌ من محلات مناشير الأحجار، بعد أن غادر العاملون فيها؛ فزعًا مما كانت تدور حوله الاحتمالاتُ، من انتقامٍ دولي سوف يقضي على كل شيء في المدينة([10]). 

وفي السياق ذاته، تأتي الإشارات العابرة إلى تضرُّر هذه المهنة بحروب صعدة([11])، وأحداث الربيع العربي([12]). لكن الحرب التي كانت أكثر حظوةً بهذا المنحى السردي، هي الحرب الأخيرة المندلعة في مارس 2015؛ فقد تضمنت سياقاتُ العمل عددًا من صور هذه الحرب، التي صارت قصصها وأخبارها "مادة مجالس القات في كل مكان..."([13])، وانسحق الناس فيها بأزمة المحروقات([14])، وتفشت محسوبية المحاباة في توزيع الإغاثة المقدمة من المنظمات الدولية([15])، وصارت الأسماء والكُنى صكّ اتهامٍ لأصحابها؛ إذ "غيرت الحرب مفاهيم الناس ومسخت هوياتهم ... [وكان] الانتماء إلى أي من المحافظات الشمالية بشكل عام يكفي للاعتقال في المحافظات الجنوبية بداية الحرب"([16]).

وضِمْنَ ما يترتب على هذه الحرب من مأساويةٍ شاملة لكل مجالات الحياة، أضاء السياق السردي تداعياتِ الصراعِ على العاملين في (مناشير الأحجار)، الذين لم يكن أمامهم إلّا أن يتكيّفوا مع الحرب مثل غيرهم من الناس([17])، ومثلهم فعل محمد فعاد إلى عمله؛ "طلبًا للرزق، وسعيًا لإعالة أسرته"([18]). 

وهنا، يتضمّن هذا السياق السردي توصيفًا لظاهرة (البطالة)؛ باعتبارها واحدًا من العوامل الفاعلة في انجرار الناس إلى الاشتراك في الحرب. كما يُعلي- مقابل ذلك- من مكانة (العمل)؛ بوصفه انتصارًا لقيم الأمن والسلم الاجتماعي: "حين لا يجد الناس عملًا، فإنهم يذهبون للدفاع عن معتقداتهم، أما إذا وجدوا عملًا يشغلهم فإنهم يتركون تلك المعتقدات تواجه مصيرها بنفسها"([19]).

وعلى ذلك، فلم يكن هذا الانتصار لقيمة السلام في (العمل) كافيًا لحماية أصحابه؛ إذ كان أبناء (الحاج عبده) ضحيةً لمحسوبية الحرب، حينما ادّعى أحد المتنفذين ملكيته لأرضية المحل الذي يعملون فيه، واعتدى مرافقوه على الأخوين (محمد/ وعبد الكريم)؛ إذ "أطلق أحدهم وابلًا من الرصاص اخترقت كف محمد الذي كان على صدر عبد الكريم محاولًا منعه من الاقتراب. عبرت الرصاصات صدر عبد الكريم فسقط قتيلًا"([20]).

إشكاليةُ إرث (البردوني)

مثلما تعاطت سردية العمل مع بُنية الحرب- من خلال تداعياتها على مهنة (مناشير الأحجار)؛ باعتبارها مهنةً للشخصية الرئيسة (محمد)، وَرَثها عن أبيه (الحاج عبده)- كان التعاطي السردي مع بُنية الإرث، في سياقها الخاص بإشكالية إرث البردوني، وما أفضى إليه انشغالُ الأب بالبحث عن أحقيته فيه، من انهيارٍ لحاله الاقتصادية، التي لم يكن رافدُها الرئيس إلّا امتلاكُه خمسةً من محلات (مناشير الأحجار)، وحين فرّط فيها داهمتْه تلك النكبة.

سُرِدتْ مأساةُ الإرثِ في أنساقٍ من الأحداث، كان (محمد) هو الأكثر إحساسًا بها، واستشرافًا لما سيأتي من مستقبلها المؤلم؛ لذلك كان موقفه منها هو المحتوى السردي في هذا العمل، من خلال تماهيه في الشخصية الرئيسة؛ إذ كانت صلةُ قرابتهِ بالجد الموَرِّث فاعلةً في هذا التماهي؛ فهو ابنٌ لابن أخ الشاعر عبد الله البردوني، الذي لم يُرزق بأولاد. ناهيك عن إحالته على حقيقةِ أنساق الحكاية، في صفحات العمل الاستهلالية التي ضمّنها قصْدِيَّتَهُ في الدلالة على هذه الحقيقة، من خلال مقولةِ الكاتب الأرجنتيني (بورخيس): "هناك أشخاص يزعمون أنهم يكتبون قصصًا حقيقية ... فليكن. على أية حال هذه قصة حقيقية"([21]). 

وعلى ما في هذا التماهي بين الشخصيتين: (الواقعية/ والسردية)، من تجسيدٍ شفّافٍ لأحداث العمل؛ إلّا أن آلية التحليل- في هذه الورقة النقدية- قد استندت بشكلٍ رئيسٍ إلى البُنية النصية، فتعاطت مع إشكاليةِ الإرثِ- هذه- من خلال المنجز الروائي، وسياقاته، ونصِّيته التدوينية، التي من خلالها تتبلور البُنى السردية والنقدية، في أيّة ذهنيةٍ من ذهنيات القراءة والتلقي.

لقد كانت هذه الإشكالية وإحالاتها عتباتٍ نصيةً في الصفحات الأولى من العمل، سواءٌ في تضمين تلك المقولة المُحيلة على حقيقة القصة السردية، أو في إيراد بيتين([22])، من شعر الشخصية المحورية في سردية هذا المنحى، عبد الله البردوني:

"ليس بيني وبين شيءٍ قرابةْ

عالمي غربةٌ، زماني غرابةْ

ربما جئتُ قبلَ، أو بعدَ وقتي

أو أتَتْ عنهُ، فترةٌ بالنيابةْ"([23]).

في هذين البيتين خصوبةٌ دلاليةٌ على البؤرة الوجدانية الرئيسة في الاغتراب النفسي الذي عاشه الشاعر؛ فتقطّعت به صلاتُ قرابته بأسرته. وكأنّ في تضمين هذين البيتين ما يحيل على اكتنازهما طاقةً إيحائية فاعلةً في استمرارية انقطاع تلك الصلات، حتى في سياقها الوراثي لدى المختلفين من أسرته حول استحقاق إرثه، من غير أن يصلوا في صراعهم إلى نهايةٍ حاسمة، لا على مستوى رغبةِ أحدهم في الاستحواذ عليه، ولا على مستوى تقسيمه الشرعي فيما بينهم.

وبعد عددٍ من الصفحاتِ، تظهر إشارةٌ مماثلة، وردت على لسان (أحمد/ أحد أبناء الحاج عبده)، وهو يتحدّثُ عن حرمانهم من "كسب المال دون عناء لو أن جدهم ترك وصية واضحة قبل وفاته تحفظ حقوقهم، وتمنع النزاع بين والدهم، الذي تسبب في شقائهم، وعمّتيهم"([24]). لم تكشف هذه الإشارة عن هوية الجدّ، واكتفت بالإحالة على ما يراه أحدُ أحفاده تقصيرًا منه في اتخاذ إجراءاتٍ، توفر عليهم أحوال الفقر والمعاناة التي تسحقهم.

بعد مسافةٍ سردية قصيرة، يُفصح السياق السردي عن هوية الجد، في استقبال أحفاده لخبرِ انهيارِ منزله في مدينة صنعاء القديمة، بسبب سقوط أمطارٍ غزيرة([25])، إذ تجسّد ردُّ الفعل الجوهري، في عدم تفاعل (محمد) مع ما حمله الخبر من الحثّ على السفر للنظر فيما حدث، مُبرّرًا موقفه هذا بالحرب الدائرة، لكنها لم تكن هي المبرر الحقيقي- على ما فيها من واقعيةٍ معيشة- إذ كانت الحقيقة التبريرية ماثلةً في الحرب الأخرى، حربه الداخلية مع تداعياتِ النكبة، التي خلّفتْها مطالبةُ أبيه باستحقاق الإرث.

ثم تظهر- في مساحةٍ سردية أخرى- هوية الجد في اسم مدرسة (الرافدين) في قريته (البردّون). لا أحد يعلم سبب هذه التسمية، لكن هناك من يقول بأن الحكومة العراقية- بعد أن ألقى الشاعر عبد الله البردوني قصيدته المشتهرة في مهرجان الموصل عام 1990م- أهدت هذه المدرسة إلى قريته التي ولد فيها([26]). يلي هذا التجلي تلميحٌ إلى النكبة الاقتصادية التي مُني بها (الحاج عبده)([27])، بما في هذا التلميح من مركزيةٍ للغاية السردية، التي تَشَارَكَ عنوانُ العمل ومتنُه محوريةَ الدلالة فيها على (النكبة).

لقد وردت هذه الإشارات- إلى إشكالية الإرث- ورودًا عابرًا، ضِمْنَ السياق الخاص بسردياتٍ متعددة، وهو السياق الذي استحوذ على ما يقارب ثلاثة أرباع الرواية، وأبقى الربع الأخير منها لسردية هذه الإشكالية، التي لم تتسق مركزيتها في العمل مع ما خُصّص لها فيه من مساحةٍ سردية. وعلى ذلك فقد زخرت هذه المساحة بتفاصيلها؛ إذ استهل الإبحارَ فيها أحدُ العاملين مع الأحفاد، في محل (منشار الأحجار)، الذي استقرت فيه مهنتهم، ثم تتسارد أبعادُ هذه الإشكالية، في حياة شخصية العمل الرئيسة (محمد).

بعدما أثَّثَ السياق السردي هذا المنحى، بحيثياتِ انقطاعِ الصلةِ، بين الجد الثري وبين أسرته، يقدم مشهديّة النكبةِ، في فاتحتها الزاهية، التي تمثّلَها ابنُ أخيه (الحاج عبده)، لحظةَ استقباله للمعزين وبرقيات التعازي في وفاة أديب اليمن وشاعره الكبير. ثم في إخباره لابنه عن استحقاقهم إرث الراحل: "لاحظ محمد أن أباه مزهو ببرقيات التعازي التي تصل تباعًا من قيادة الدولة ومن عدد من المنظمات الثقافية المحلية والعربية، التي وجهتها إليه شخصيًّا، ومن خلاله إلى بقية أفراد الأسرة. أخبر محمد أنهم الورثة الحقيقيون للراحل، وأن ممتلكاته ستصبح ملكًا لهم"([28]). لكن بعد أشهر قليلة تلاشى هذا الزهو؛ إذ علم (محمد) أن أرملة جده قد اختلفت مع أبيه، ثم أسفر احتكامهما إلى القضاء عن تمليكها البيت الحديث (أحد البيتين اللذين يملكهما الفقيد)، ولم يفصل القضاء في مصير البيت الآخر في مدينة صنعاء القديمة، الذي احتفظ أبوه بمفاتيحه وكلف من يقوم بحراسته. أما مصير النياشين والأوسمة وما شابه ذلك، فقد علم (محمد)، فيما بعد، أن جدته (فتحية الجرافي) قد سلمتها إلى وزارة الثقافة، وسلمت المخطوطات وما في سياقها إلى (محمد الشاطبي)، الذي كان يعمل مع الراحل كاتبًا وقارئًا شخصيًّا.

استمر الأب الواهم، في مطالبته بأحقيته في الإرث، حريصًا على أن يوظف كل فكرةٍ في تعزيز موقفه، من مثل توجيه ابنه (محمد) في كل مجلس، بإلقاء قصيدة من قصائد جدّه تأكيدًا لصلة القرابة بينهم، واستحقاقهم لإرثه([29]). كان الابن ينفذ التوجيه على مضض، لكنه امتنع عن ذلك، بعدما وجد في قضية الإرث ما يحول دون زهو القرابة، واتخذ قراره في الإحلال محلها العلاقة الإنسانية والإبداعية.

غرق الأب في مستنقع قضية الإرث ودائرتها المتشعبة، خسر كل ما لديه من محلات كانت كفيلة بالوصول به إلى قمة الثراء فيما لو استمر في عمله، وتمكن الابن بصعوبة بالغة من إقناعه بترك هذه القضية وانتظار ما ستأتي به الأيام، أو مجيء هذه الثروة إليه بنفسها إن تخلى هو عنها، سيما وأنه الوريث الرئيس الذي لا يمكن الإقدام على شيء إلّا بحضوره المباشر([30]). 

لم يتوقف نجاح (محمد) عند هذا الإقناع، وإنما امتد إلى إقناع أبيه، أيضًا، بمغادرة (صنعاء)، ومن ثم نجاحه في إنشاء محل (منشار الأحجار) الجديد في مدينة (تعز)، وإعادة تفعيل العمل في المحل القديم في مدينة (عدن). وبذلك، كان العمل هو ملاذه من شعوره المؤلم بتداعيات تلك القضية، وما ترتب على تَعَنُّتِ الورثة من جنايةٍ على إرث البردوني المادي والفكري؛ لذلك لم يتحمّس للسفر من محله في (تعز) إلى (صنعاء)، حينما أبلغه ابن عمته بضرورة مجيئه لتسوير أرضية منزل البردوني بعد انهياره، مؤكدًا أنها لن تتعرض لأي خطرٍ ما داموا بعيدين عنها: "لن يجرؤ أحد على المساس بأرضية منزل عبد الله البردوني، لن يسيء أحد إلى عبد الله البردوني مثلما فعلنا نحن أسرته، سوف تضيع إن نحن اقتربنا منها"([31]).

لقد قدم العمل إشكالية إرث الشاعر عبد الله البردوني، وسلبيةَ أسرتهِ في التعاطي مع القيمة الحضارية والفكرية لهذا الإرث؛ فكشفت الأنساق السردية عن أبعاد هذه الإشكالية، بمصداقيةٍ وشجاعةٍ ذات مستوى عالٍ، من المكاشفة والموضوعية السردية لأحداثٍ تتماهى فيها الشخصيتان (الواقعية/ والروائية)، بشكلٍ لم ينل من الإنصاف التدويني للواقعية الإشكالية في هذه القضية؛ لما تتركه شفافيةُ الازدواجِ بين الراوي والكاتب من حيّزٍ للذات كي تقف أمام ذاتها وتحاور عريّها معرفيًّا([32]). لذلك، كان هذا الازدواج فاعلًا في صقل شخصية الكاتب، وتجاوزه صراع أسرته، واستحقاقه الإرث الجوهري المُتَشَكِّل من اتصاله بروح البردوني الأدبية، في مسارها السردي الذي تمثّلت أولى خطواته في إنجاز هذا العمل الروائي، ولا شك أنه فاتحةُ أعمالٍ سردية قادمة.

آلياتٌ ورؤى

قامت سردية هذا العمل، على الغاية التي تسعى إلى إزاحة الستار، عن إشكالية الإرث المستعصية في أسرة الشاعر عبد الله البردوني، مع رغبةٍ في إضاءة الصورة الغائبة من تداعيات تلك الإشكالية، والمتمثّلة في نكبةٍ ماليةٍ قاسيةٍ، فتكتْ بشخصية العمل وأسرته. وعلى ما في إحالة العنوان على هذه النكبة، إلّا أن بُنية الحرب قد استحوذت على مساحةٍ شاسعة من السياقات السردية، على حساب بُنيته المركزية. كما تخلل هاتين البُنيتين تسريدٌ مقتضبٌ، لعددٍ من صور الحياة الاجتماعية والسياسية في اليمن، منها: الأعمال التخريبية لأبراج الطاقة الكهربائية([33])، وخصوصية الحياة الريفية بمعاناة نسائها ورخاء مزارعها([34]).

وعلى ما في مضامين "الرواية السيرذاتية" من ارتباطٍ وثيقٍ بالتأطير الواقعي، إلّا أن ذلك لا يعني كبحَ التدفق السردي، المشحون بطاقةٍ تتكاثف فيها عواملُ انصهارِ الذات، بشكلٍ متناغمٍ مع ماهية هذا النوع من الكتابة الروائية.

انتصرت الرؤية السردية في هذه الرواية، لقيمة (العمل)؛ باعتباره وسيلةً ناجعة للقضاء على عوامل استمرارية الحرب، سيما ظاهرة البطالة، التي تفضي إلى اتخاذ الحرب مشروعَ عملٍ بديل. كما أنه الطريق، الذي يصل بالمرء إلى تحقيق رغبته في الثراء المالي. لا التخلي عنه، والتشبُّث باحتمالاتٍ تحكمها سياقاتٌ اجتماعية واشتراطات وعوائق، تحيل الإرث من احتمالية البلوغ به الثراء المباغت إلى نكبة اقتصادية مؤسفة.

وفي السياق ذاته، تضع هذه الرؤية السردية الإرثَ المالي في سياقه المحدود، مُقابلَ انتصارها للإرث الإبداعي والفكري وعدم التفريط فيه، وتمكين الأجيال من الاستضاءة به، لما يمثّله من قيمةٍ تكوينيةٍ مُهمّةٍ، في بُنى الحضارات الإنسانية المتمايزة في تنوعها الثقافي والفكري.

 



([1] ) صدرت هذه الرواية، عن مؤسسة "حزاوي" للتنمية الثقافية، 2023م، بالاشتراك مع "بنك اليمن والكويت" الراعي الرسمي لجائزة "حزاوي" للسرد اليمني. وحصلت الرواية على التوصية بالنشر من هذه الجائزة، في دورتها الأولى 2022م.

([2] ) محمد القاضي وآخرون، "معجم السرديات"، ط1، دار الفارابي، بيروت، 2010م، ص218.

([3] ) محمد عبده البردوني، "إرث النكبة"، مصدر سابق، ص145ــ148.

([4] ) نفسه، ص148.

([5] ) نفسه، ص123.

([6] ) من ذلك، الحديث عن إنشاء الحاج عبده محلاتِ مناشير الأحجار، في التسعينيات، ص189. وحرب 1994م، ص172،55. والتفجير الإرهابي للمدمرة الأمريكية (يو إس إس كول) أكتوبر عام2000م، ص168. وانتخابات 2006، ص42. والحراك الجنوبي عام 2007م، ص173،60. وارتباك الأوضاع السياسية في 2010م، ص55. والاعتقالات المناطقية عام 2015م، ص47. وإصابة الشخصية الرئيسة ومقتل أخيها على يد أحد المتنفذين في 18 سبتمبر 2019م، ص196.

([7] ) محمد عبده البردوني، "إرث النكبة"، مصدر سابق، ص21.

([8] ) نفسه، ص77،76.

([9] ) نفسه، ص172.

([10] ) نفسه، ص168.

([11] ) نفسه، ص40.

([12] ) نفسه، ص115.

([13] ) نفسه، ص23.

([14] ) نفسه، ص63.

([15] ) نفسه، ص120،117.

([16] ) نفسه، ص47.

([17] ) نفسه، ص48.

([18] ) نفسه، ص141.

([19] ) نفسه، ص142.

([20] ) نفسه، ص199.

([21] ) نفسه، ص6.

([22] ) نفسه، ص5.

([23] ) عبد الله البردوني، "الأعمال الشعرية"، ط1، إصدارات الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 2002م، جـ2/ ص875.

([24] ) محمد عبده البردوني، "إرث النكبة"، مصدر سابق، ص11.                     

([25] ) نفسه، ص23. تعرض منزل البردوني في صنعاء القديمة للانهيار جراء الأمطار الغزيرة، في السابع من أغسطس 2020م.

([26] ) نفسه، ص76.

([27] ) نفسه، ص88.

([28] ) نفسه، ص149.

([29] ) نفسه، ص165.

([30] ) نفسه، ص171،170.

([31] ) نفسه، ص191.

([32] ) يُمنى العيد، "فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب"، ط1، دار الآداب، بيروت، 1998، ص73.

([33] ) محمد عبده البردوني، "إرث النكبة"، مصدر سابق، ص7.

([34] ) نفسه، ص28.